الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِالتَّعْزِيرِ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. رَوَى حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ جَلَدَتْ أَمَةً لَهَا... الْحَدِيثَ. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَطَعَتْ جَارِيَةً لَهَا سَرَقَتْ.وَرُوِيَ أَنَّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَتَلَتْ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا. وَرَوَى نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَطَعَ يَدَ غُلَامٍ لَهُ سَرَقَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ جَلَدَ وَلِيدَةً لَهُ زَنَتْ. وَرُوِيَ أَنَّ مُقْرِنًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ أَمَةٍ لَهُ زَنَتْ، فَقَالَ: اجْلِدْهَا. وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ الْأَنْصَارُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ يَخْرُجُونَ مَنْ زَنَا مِنْ إِمَائِهِمْ فَيَجْلِدُونَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ لِلْإِمَامِ حَقَّ الْوِلَايَةِ، وَلِلسَّيِّدِ حَقَّ الْمِلْكِ، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا إِحْدَى عِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ تَزْوِيجَهَا مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ مَلَكَ حَدَّهَا كَالْإِمَامِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ فِي رَقَبَتِهِ، مَلَكَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى يَدَيْهِ كَالْإِمَامِ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ فِي عَبْدِهِ أَعَمُّ، وَعُقُودَهُ فِيهِ أَتَمُّ مِنَ الْإِمَامِ الْمُتَفَرِّدِ بِنَظَرِ الْوِلَايَةِ، فَكَانَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ أَحَقُّ. وَخَالَفَ الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي لَا نَظَرَ لَهُ فِيهِ وَلَا حَقَّ، وَخَالَفَ الْحُرُّ الَّذِي لَا وِلَايَةَ لَهُ إِلَّا لِلْإِمَامِ، وَخَالَفَ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا، فَلَمْ تَصِحَّ الْوِلَايَةُ مِنْهُمَا. وَسَنَذْكُرُ فِي حُكْمِ الْبَيِّنَةِ وَالسَّرِقَةِ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ مَا يَكُونُ جَوَابًا وَانْفِصَالًا.فصل: فَإِذَا ثَبَتَ لِلسَّيِّدِ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ، فَالْكَلَامُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي السَّيِّدِ الَّذِي يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ.وَالثَّانِي: فِيمَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ.وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُقِيمَ بِهِ الْحُدُودَ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ: فَهُوَ مَنِ اسْتُكْمِلَتْ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: جَوَازُ الْأَمْرِ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالرُّشْدِ: لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْفُذْ مَرَّةً فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَأَوْلَى أَنْ يَنْفُذَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ سَفِيهًا لَمْ يَمْلِكْ إِقَامَةَ الْحَدِّ، فَإِنْ أَقَامَهُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ كَانَ تَعَدِّيًا مِنْهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَلَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ بِجَلْدِهِ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا. فَفِي جَوَازِ إِقَامَتِهِ لِلْحَدِّ عَلَى عَبْدِهِ وَجْهَان:أحدهما: لَا يَجُوزُ: لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِوِلَايَةٍ تَنْتَفِي مَعَ الْفِسْقِ.وَالثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ إِقَامَتُهُ: لِأَنَّ فِسْقَهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِنْكَاحِ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَجُلًا: لِأَنَّ الرِّجَالَ أَحْصَنُ بِالْوِلَايَاتِ مِنَ النِّسَاءِ. فَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِيهِ وَلَا لِوَلِيِّهَا، وَيَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ لِقُصُورِهَا عَنْ وِلَايَاتِ الرِّجَالِ.وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ وَلَيُّهَا نِيَابَةً عَنْهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهَا كَالنِّكَاحِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ مُبَاشَرَةَ إِقَامَتِهِ بِنَفْسِهَا وَبِمَنْ تَسْتَنِيبُهُ فِيهِ مِنْ وَلِيٍّ وَغَيْرِ وَلِيٍّ: لِتَفَرُّدِهَا بِالْمِلْكِ وَحُقُوقِهِ. وَقَدْ جَلَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ أَمَةً لَهَا زَنَتْ، وَقَطَعَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَمَةً لَهَا سَرَقَتْ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ تَامَّ الْمِلْكِ فِي كَامِلِ الرِّقِّ، فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ: لِنَقْصِهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الرِّقِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُدَبَّرًا، أَوْ مُخَارِجًا، أَوْ مُعْتَقًا نَصْفُهُ لَمْ يَمْلِكْ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى عَبْدِهِ بِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ مُكَاتِبًا فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ بِحَدِّ عَبْدِهِ وَجْهَان:أحدهما: يَسْتَحِقُّهُ: لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ.وَالثَّانِي: لَا يَسْتَحِقُّهُ: لِنَقْصِهِ بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الرِّقِّ. وَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ تَامَّ الْمِلْكِ بِكَمَالِ الْحُرِّيَّةِ، إِلَّا أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ تَامِّ الرِّقِّ: لِعِتْقِ بَعْضِهِ وَرِقِّ بَعْضِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا: لِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الَّتِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهَا. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى إِقَامَتِهِ جَازَ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحُدُودِ، وَمِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ: لِيَعْلَمَ مَا يَجِبُ فِيهِ وَلَا يَجِبُ، فَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى وُجُوبِهِ عُمِلَ فِيهِ عَلَى الِاتِّفَاقِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ لَمْ يَخْلُ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْإِمَامِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وُجُوبِهِ، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَفَرَّدَ بِاسْتِيفَائِهِ.وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى إِسْقَاطِهِ فَلَا حَدَّ.وَالثَّالِثُ: أَنْ يَرَى الْإِمَامُ وُجُوبَهُ وَالسَّيِّدُ إِسْقَاطَهُ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ دُونَ السَّيِّدِ.وَالرَّابِعُ: أَنْ يَرَى السَّيِّدُ وُجُوبَهُ دُونَ الْإِمَامِ، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِرَأْيِهِ مَا لَمْ يَحْكُمِ الْإِمَامُ بِإِسْقَاطِهِ. فَإِنْ حُكِمَ بِهِ مُنِعَ مِنْهُ السَّيِّدُ: لِأَنَّ حُكْمَ الْإِمَامِ أَنْفَذُ وَأَعَمُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ السَّيِّدُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحُدُودِ مُنِعَ مِنْ إِقَامَتِهَا: لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ وُجُوبَهَا حَتَّى يَرْجِعَ فِيهَا إِلَى مَنْ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى حَاكِمٍ، جَازَ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ وُجُوبِ إِسْقَاطِهِ، وَيَقُومَ بِاسْتِيفَاءِ مَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِوُجُوبِهِ. وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ نَقْضُهُ، وَإِنْ رَجَعَ فِيهِ إِلَى اسْتِيفَاءٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ. فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ مُتَّفَقًا عَلَى وُجُوبِهِ، كَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِقَوْلِ مَنْ أَفْتَاهُ. وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَفِي جَوَازِ اسْتِيفَاءِ السَّيِّدِ لَهُ بِفُتْيَاهُ وَجْهَان:أحدهما: لَا يَجُوزُ: لِأَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ.وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ، لِأَنَّ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ فِي عَبْدِهِ أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِ الْحَاكِمِ، إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِسُقُوطِهِ فَيُمْنَعُ.فصل: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ: فَهُوَ مَا كَانَ جَلْدًا، إِمَّا فِي زِنًا، أَوْ قَذْفٍ، أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ: لِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَأْدِيبَهُ بِالْجَلْدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَهَلْ يَمْلِكُ مِنْ حَدِّهِ مَا تَعَلَّقَ بِإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، مِنْ قَطْعِهِ فِي السَّرِقَةِ وَقَتْلِهِ بِالرِّدَّةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: لَا يَمْلِكُ: لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَلَا يَقْطَعُهُ إِذَا سَرَقَ وَلَا يَقْتُلَهُ إِذَا ارْتَدَّ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ أَحَقَّ بِقَطْعِهِ وَقَتْلِهِ.وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ حُدُودِ الدِّمَاءِ مِثْلَ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ حُدُودِ الْجَلْدِ: لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ مِثْلَهُ مِنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، كَالْجِنَايَةِ وَقَطْعِ السِّلْعَةِ.وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ دُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ التَّأْدِيبِ: لِأَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَحِقُّ تَأْدِيبَ زَوْجَتِهِ فِي النُّشُوزِ، وَالْأَبَ يَسْتَحِقُّ تَأْدِيبَ وَلَدِهِ فِي الِاسْتِصْلَاحِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِقَامَةَ الْحُدُودِ. وَرَوَى نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَطَعَ عَبْدًا لَهُ سَرَقَ. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ قَطَعَتْ أَمَةً لَهَا سَرَقَتْ. وَقَتَلَتْ حَفْصَةُ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا. فَأَمَّا التَّغْرِيبُ- إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إِذَا زَنَيَا-: فَفِي اسْتِحْقَاقِ السَّيِّدِ لَهُ وَتَفَرُّدِهِ بِهِ وَجْهَان:أحدهما: يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ: لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ أَحَدُّ الْحَدَّيْنِ كَالْجَلْدِ.وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَغْرِيبَهُ فِي غَيْرِ الزِّنَا، فَكَانَ بِتَغْرِيبُ الزِّنَا أَحَقُّ.وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ لِأَمْرَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَغْرِيبَ الزِّنَا مَا خَرَجَ عَنِ الْمَأْلُوفِ إِلَى النَّكَالِ، وَهَذَا بِتَغْرِيبِ الْإِمَامِ أَخَصُّ.وَالثَّانِي: لِاخْتِصَاصِ الْإِمَامِ بِنُفُوذِ الْأَمْرِ فِي بِلَادِ النَّفْيِ دُونَ السَّيِّدِ.فصل: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُقِيمَ بِهِ الْحُدُودَ: فَهُوَ إِقْرَارٌ عِنْدَهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَحُدُّهُ بِإِقْرَارِهِ، وَأَمَّا بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ إِنْكَارِهِ، فَفِي جَوَازِ حَدِّهِ بِهَا وَجْهَان:أحدهما: لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُدَّهُ بِهَا: لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَاتِ مُخْتَصٌّ بِأَوْلَى الْوِلَايَاتِ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى اجْتِهَادٍ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ: لِأَنَّهُ رُبَّمَا تُوَجَّهَ إِلَى السَّيِّدِ فِيهِ تُهْمَةٌ فَاخْتَصَّ بِمَنْ يَنْتَفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ مِنَ الْوُلَاةِ.وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحُدَّهُ بِالْبَيِّنَةِ: لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ مَلَكَ حَدَّهُ بِالْإِقْرَارِ مَلَكَ بِالْبَيِّنَةِ كَالْحُكَّامِ.وَالثَّانِي: أَنَّ السَّيِّدَ أَبْعَدُ مِنَ التُّهْمَةِ فِي عَبْدِهِ لِحِفْظِ مِلْكِهِ مِنَ الْحُكَّامِ، فَكَانَ بِذَلِكَ أَحَقَّ. فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحُدَّهُ بِعِلْمِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا: فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى أَنْ لَا يَحْكُمَ فِيهَا بِعِلْمِهِ: لِأَنَّهَا تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. فَعَلَى هَذَا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْحُدُودِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ: لِأَنَّهَا حُدُودٌ تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ. وَأَمَّا السَّيِّدُ فِي حَقِّ عَبْدِهِ بِعِلْمِهِ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ الْحَاكِمُ كَانَ السَّيِّدُ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ، وَإِنْ جُوِّزَ لِلْحَاكِمِ كَانَ فِي جَوَازِهِ لِلسَّيِّدِ وَجْهَانِ، مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ حَدِّهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. اهـ.
.تفسير الآية رقم (3): قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}..مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما كان في ذلك من الغلظة على الزاني لما ارتكب من الحرام المتصف بالعار ما يفهم مجانبته، صرح به، مانعًا من نكاح المتصف بالزنى من ذكر وأنثى، إعلامًا بأن وطء من اتصف به من رجل أو امرأة لا يكون إلا زنى وإن كان بعقد، فقال واصلًا له بما قبله: {الزاني لا ينكح} أي لا يتزوج {إلا زانية أو مشركة} أي المعلوم اتصافه بالزنى مقصور نكاحه على زانية أو مشركة، وذلك محرم، فهذا تنفير للمسلمة عن نكاح المتصف بالزنى حيث سويت بالمشركة إن عاشرته، وذلك يرجع إلى أن من نكحت زانيًا فهي زانية أو مشركة، أي فهي مثله أو شر منه، ولو اقتصر على ذلك لم يكن منع من أن ينكح العفيف الزانية، فقال تعالى مانعًا من ذلك: {والزانية لا ينكحها} أي لا يتزوجها {إلا زان أو مشرك} أي والمعلوم اتصافها بالزنى مقصور نكاحها على زان أو مشرك، وذلك محرم فهو تنفير للمسلم أن يتزوج من اتصفت بالزنى حيث سوى في ذلك بالمشرك، وهو يرجع إلى أن من نكح زانية فهو زان أو مشرك، أي فهو مثلها أو شر منها، وأسند النكاح في الموضعين إلى الرجل تنبيهًا إلى أن النساء لا حق لهن في مباشرة العقد؛ ثم صرح بما أفهمه صدر الاية بقوله مبنيًا للمفعول لأن ذلك يكفي المؤمن الذي الخطاب معه: {وحرم ذلك} أي نكاح الزاني والزانية تحريمًا لا مثنوية فيه {على المؤمنين} وعلم من هذا أن ذكر المشرك والمشركة لزيادة التنفير، ثم إن هذا الحكم فسخ كما قال إمامنا الشافعي رحمه الله موافقة لابن المسيب بقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور: 32] وهو جمع أيم وهو من لا زوج له من الذكور والإناث، فأحل للزاني أن ينكح من شاء، وللزانية أن تنكح من شاءت، وقراءة من قرأ {لا ينكح} بالنهي راجعة إلى هذا، لأن الطلب قد يجيء للخبر كما يجيء الخبر للطلب- والله أعلم؛ قال الشافعي رحمه الله تعالى ورضي الله عنه في الأم في جزء مترجم بأحكام القرآن وفي جزء بعد كتاب الحج الكبير والصغير والضحايا: ما جاء في نكاح المحدثين، فذكر الآية وقال: اختلف أهل التفسير في هذه الاية اختلافًا متباينًا، أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن مجاهد أن هذه الآية نزلت في بغايا من بغايا الجاهلية كانت على منازلهن رايات، قال في الجزء الآخر: وكن غير محصنات، فأراد بعض المسلمين نكاحهن فنزلت الآية بتحريم أن ينكحن إلا من أعلن بمثل ما أعلن به أو مشركًا، وقيل كن زواني مشركات فنزلت لا ينكحهن إلا زان مثلهم مشرك، أو مشرك وإن لم يكن زانيًا، وحرم ذلك على المؤمنين، وقيل: هي عامة ولكنها نسخت، أخبرنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: هي منسوخة نسختها.{وأنكحوا الأيامى منكم} [النور: 32] فهي من أيامي المسلمين، فهذا كما قال ابن المسيب إن شاء الله تعالى، وعليه دلائل من الكتاب والسنة، ثم استدل على فساد غير هذا القول بأن الزانية إن كانت مشركة فهي محرمة على زناة المسلمين وغير زناتهم بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: 221] ولا خلاف في ذلك، وإن كانت مسلمة فهي بالإسلام محرمة على جميع المشركين بكل نكاح بقوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} [الممتحنة: 10] ولا خلاف في ذلك أيضًا، وبأنه لا اختلاف بين أحد من أهل العلم أيضًا في تحريم الوثنيات عفائف كن أو زواني على من آمن زانيًا كان أو عفيفًا، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد بكرًا في الزنى وجلد امرأة ولم نعلمه قال للزاني: هل لك زوجة فتحرم عليك إذا زنيت، ولا يتزوج هذا الزاني ولا الزانية إلا زانية أو زانيًا، بل قد يروى أن رجلًا شكا من امرأته فجورًا فقال: طلقها، قال: إني أحبها، قال: استمتع بها- يشير إلى ما رواه ابو داود والنسائي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما- أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: طلقها، قال: إني لا أصبر عنها، قال: فأمسكها ورواه البيهقي والطبراني من حديث جابر رضي الله عنه، وقال شيخنا ابن حجر: إنه حديث حسن صحيح- انتهى.
|